الناقد السينمائي: مودي عبدالله يكتب: “من يحضن البحر”.. شفاعات مسترقة في محارب التيه
مروه حسن
20 أكتوبر، 2025
الفن والثقافه
عدد المشاهدات 5371 65
بقلم مودي عبد الله
يستكمل المخرج والمؤلف محمود محمود في فيلمه الجديد من يحضن البحر سبر أغوار الروح الإنسانية وما تكتنزه من مآزق وجودية، عبر شخصياته المنتحبة، الضائعة، الهستيرية، والصامتة، تلك الأرواح المسفوحة على مذبح الغربة المطلقة، العاجزة عن انتشال ذواتها من وحدتها الأزلية واستلاباتها الوجدانية، لتظل حبيسة العجز عن التواصل الحقيقي، حتى في لحظات اللقاء. بين شخوص الفيلم جدران إخفاق قائمة، تحول دون الأنس، وتحجب الاتصال.
ربما أكثر شخصيات العمل جدية ورصانة، ليست بالضرورة فنيًا ولكن كحالة إنسانية، هي الشخصية التي افتُتح بها الفيلم، ويؤديها الممثل القدير حسين نخلة. في هذا العمل لا يفصح نخلة عن شيء واضح، بل يترك لشريط الصوت وموسيقاه المتمردة وخواطره الصامتة التعبير عن مكنونه الداخلي، ورغم اختلاف الفيلم عن سابق أعمال محمود محمود، إلا أنه لا ينفصل عنها تمامًا، إذ ينبثق من ذات البوتقة الفكرية والروحية.
تبدو شخصية حسين نخلة الأكثر رصانة رغم ما يطوقها من أسمال الكدر والوجد، ربما لأنها الوحيدة التي لم تلجأ إلى مغيبات أو ملهيات تتهرب بها من ذاتها. هي شخصية في حالة خلوة ذاتية، تغوص في ظلام دامس على وسع الأفق، تضطر فيها الروح إلى الكشف عن نفسها واستفراغ ترسبات الماضي المحتقنة في رحم البوح. ليست مغمورة بيأس مطلق رغم الحزن الذي يكتنف ملامحها، إذ يعكس عجزها عن البكاء حالة من الاستسلام الهادئ، لا لعرف ذكوري، بل لغياب العالم من حولها؛ لا أحد معها سوى ذاتها، في مواجهة استرجاعات الماضي وصراعات الوعي الداخلي.
في المشهد الذي يتلو الافتتاحية، حيث تُلتقط لقطة قريبة (Close-up) لوجه نخلة، يتجلى إدراك المخرج لأدواته. لم يحتج إلى غناء أو موسيقى إضافية، فالمشهد مكثف بذاته، غني بعاطفته الداخلية دون الحاجة لشحنات زائدة. يدرك المخرج بذكاء قدرات ممثليه وحدودهم، ويعرف بدقة أي موهبة تتجاوب مع عدسة الكاميرا، سواء في اللقطة الواسعة أو المقربة. حسين نخلة يقدم نموذجًا فريدًا؛ فموهبته لا تختزل في عمق صوته الدرامي فقط، بل في تعبير وجهه الذي ينطق بالبصيرة والألم معًا.
تعامل المخرج مع أداء نخلة بلقطات قريبة، تزداد قربًا تدريجيًا لتلتقط أرهف الإيماءات، كاشفة حساسية العدسة وقدرتها على اجتراح اختلاجات الروح من صمت ظاهري يتحايل على الإفصاح. وهو ما يذكّر بما قاله الناقد المجري بيلا بلاش عن اللقطة القريبة:
> “اللقطة القريبة هي شِعر السينما، إذ تُظهر كلّ درجة من الإحساس بتفاصيل دقيقة تعبّر عن حساسية المخرج.”
أما عن توظيف الأصوات، فقد اختار المخرج صدى ضحكات الأطفال وبهجتهم لا ليستدعي رومانسيات الماضي، بل ليحاكي أقصى نقيض اليأس — الطفولة. فالطفولة، كما يرى محمود، هي الصفحة الأنقى في حياة الإنسان، البكر على الجراح والحنين، وهي أكثر ما يحن إليه الإنسان وهو في أقصى درجات التيه.
البحر في الفيلم كناية عن الروح، أداة رمزية للكشف عن المكنون وراء الصدر، وعن الأحلام والآمال المكظومة والمسكوث عنها. استخدم محمود البحر كمرآة للذات، فبدت اللقاءات بين الشخصيات غامضة، لا يدرك المشاهد هل تجري فيزيائيًا أم في عالم اللاوعي.
الفيلم ينتمي إلى المدرسة التجريبية، أقرب إلى إسقاطات اللاوعي وأضغاث الأحلام، لا إلى السرد الروائي الخطي. فالشكل الرمزي المكثف فيه يخلق أنساقًا غير منطقية زمنيًا ومكانيًا، لكنها تفيض بإحساس حسي داخلي يلتقط المشاعر في عمقها. وهنا تتجلى براعة المخرج في توظيف شريط الصوت لا كعنصر إضافي، بل كصلة تربط بين المشاهد وتكشف بعدها الباطني، لتغدو الموسيقى والصمت معًا دالًا ومدلولًا في آن.
في حين أن الصمت في سينما الأنماط — كسينما هوليوود — يُستعمل كفاصل بين المشاهد، فإن محمود محمود يحيله إلى وسيط فلسفي كاشف، يضيء عتمات النفس، ويحوّله إلى صمت عرفاني يبوح بما تعجز الكلمات عنه.
في مشهد آخر لافت، تقف إحدى الشخصيات أمام جدار رسم عليه بحر وسفينة، تتأمل مبتسمة في شرودها. الجدار هنا ليس ديكورًا بل رمزًا، استعارة للعزلة ولصفحة التأمل الداخلي. الجدران في الفيلم تتحول إلى مرايا روحية، تُستدعى فيها الأحلام المؤجلة والرغائب المكبوتة، لتغدو “شفاعات مسترقة” كما يصفها الناقد، تتحايل بها النفس على واقعها الصلب لتمنح نفسها عزاءً مؤقتًا هشًّا.
تتشاطر الشخصيات جميعها المأزق الوجودي ذاته رغم اختلاف تعاملها معه؛ إحساس الضياع المطلق، والاغتراب عن الذات. شخصيات بلا أسماء، كناية عن البشرية جمعاء، في تجريد مقصود من الهويات الفردية ليغدو الصراع النفسي والروحي مشتركًا كونيًا. إنها ضريبة الإنسان المعاصر — وربما الإنسان منذ الخلق — ضريبة الهروب من الذات، والخذلان القديم للنفس.
في أحد المشاهد، يظهر الممثل عبيد في حالة هياج وسُكر مع شخصية مجهولة، مشهد يختصر مأساة الإنسان الحديث، المراوغ دائمًا للحظة المكاشفة. يملأ المخرج الفضاء بأصوات متنافرة — رصاص في مشهد رومانسي، غناء وسط السكون — كأنه يعرّي زيف الكلام والفعل في آن، ويكشف عبث الإنسان في بحثه عن المعنى.
> “ما الحاضر إلا اجتماع الماضي والمستقبل، فلا وجود لحضور خالص ولا غياب خالص، بل الإنسان يتأرجح بين الحضور والغياب.” — يزيد السنيد
في هذا السياق، تنصهر الحدود الزمانية والمكانية للشخصيات، فلا تُرسم لها هوية متكاملة. يختفي الزمان المحدد والمكان الملموس، وتُلقى الشخصيات في فراغ تأويلي يتيح للمشاهد استقراء مآزقها الداخلية من ومضات المشاعر وتهمعات الوجدان. لا حاجة لخلفيات ثقافية أو اجتماعية، فالمخرج يؤمن أن الهوية الفردية عرضية وملفقة، بينما الهمّ الإنساني وجودي وأبدي.
يتجلى هذا الأسلوب في سينما محمود محمود عامة، خاصة في فيلمه السابق عبد الودود، حيث تظهر الشخصيات في صورة شبه متسرمنة، بلا ملامح بشرية واضحة، في زمكان غامض مجهول الهوية، كأن المخرج يعلن أن الإنسان في كل زمان ومكان هو ذاته في معاناته.
يستحضر الفيلم مفهوم المونتاج التأويلي كما طرحه زياد السنيد، إذ يبعثر الزمن والمكان والحلم في وحدة درامية واحدة، أقرب إلى بنية الأحلام منها إلى السرد الواقعي. لا تنتمي سينما محمود إلى السوريالية تمامًا، لكنها تشاطرها التشظي السردي، وتحرر نفسها من قيد القصص لتكون سينما بصرية خالصة.
في هذا السياق، يغيب الزمن الواقعي لتحل محله الحدسية البرغسونية — زمن التجربة الشعورية لا الساعات، زمن الوعي الداخلي لا التاريخ. وهنا تتجلى فلسفة المخرج الفينومينولوجية، التي لا ترى الزمن كشيء خارجي، بل كنتاج وعي الإنسان بذاته.
تؤكد رؤية محمود أن الإنسان عاجز عن الانغمار الكامل في الحاضر، عالق بين الحضور والغياب، في استلاب وجودي أزلي منذ لحظة سقوط آدم من الجنة.
ويختم الناقد بما قاله إنغمار بريجمان:
> “أمقت الأسلوب الفكري العقلاني في معالجة أمور هي حسّية جدًا وذاتية جدًا.”
فالفيلم لا يطلب من متلقيه تفسيرًا موحدًا أو تأويلاً مغلقًا؛ بل يفتح الباب أمام تعدد القراءات. إن من يحضن البحر عمل يحرر السينما من سطوة الرواية، ويعيدها إلى جوهرها الفني كفن للتمظهر البصري والشعور الإنساني. إنه عمل يستفز الحس بقدر ما يستحث الفكر، يعيد للسينما دورها كأداة إنسانية لا كمنتج استهلاكي، ويجعل من الغربة والبوح والبحث عن الذات لغة شعرية سينمائية في أنقى صورها.